top of page

كيف غيّرت الإلكترونيات عالم الطيران؟

في العقدين الأولين من الطيران كان الاعتماد شبه كامل على الحواس وأساليب الملاحة التقليدية حيث يتم تقدير المسار والسرعة والرياح (dead reckoning) مع أدوات ميكانيكية بسيطة مثل البوصلة المغناطيسية، مؤشر السرعة الهوائية البدائي القائم على ضغط بيتو/فرْنِلي، والارتفاعيّ (Altimeter) ومع دخول الجيروسكوبات الميكانيكية في العقدين 1910–1920 ظهرت أدوات أفق اصطناعي ومؤشر اتجاه جيرسكوبي حسّنت الطيران الآلي المبكر، لكنها بقيت أدوات كهروميكانيكية لا إلكترونية بحته. وفي الثلاثينيات بدأ الراديو حيث اعتمدت الولايات المتحدة نظام المدى الراديوي منخفض التردد (Low-Frequency Radio Range) الذي يوجّه الطيارين بالطيران “على الحزمة”، بينما فضّلت أوروبا تحديد الاتجاه الراديوي (Radio Direction Finding) هذه الأنظمة سبقت الحرب بقليل ومهّدت لانتقال نوعي أثناء الحرب من توقيتٍ ميكانيكي إلى توقيتٍ يعتمد على التردد/الطور في القياس، وهو ما سيسمح لاحقًا بأنظمة فارقة مثل Gee البريطاني وLORAN الأطول مدى. بهذه الخلفية انتقل الطيران من مقصورة “أدوات ميكانيكية” إلى عتبة إلكترونيات الحرب التي ستغير قواعد اللعبة.


El planeador 1891
El planeador 1891

الحرب العالمية الثانية: ولادة الإلكترونيات الجوية


مع اندلاع الحرب العالمية الثانية حدث الانعطاف الأكبر في تاريخ إلكترونيات الطيران، دخل الرادار (RADAR) ساحة المعركة كأداة حاسمة في الدفاع والهجوم حيث مكّن الطيارين من اكتشاف الأهداف في الظلام أو وسط السحب، إلى جانبه ظهرت أنظمة الملاحة الراديوية المتقدمة مثل Gee البريطاني الذي اعتمد على قياس الفروق الزمنية بين إشارات محطات أرضية لتحديد الموقع بدقة غير مسبوقة وLORAN الأمريكي (Long Range Navigation) الذي وفر تغطية لمسافات عابرة للمحيطات. لم تكن هذه الأجهزة ممكنة لولا استخدام الأنابيب المفرّغة (Vacuum Tubes) والتي وفّرت تضخيماً وقدرة على معالجة الإشارات عالية التردد رغم حجمها الكبير وسخونتها الدائمة كما لعبت أجهزة الاتصال اللاسلكي بعيدة المدى (HF وVHF) دورًا محوريًا في تنسيق الطلعات الجوية، كل هذه التقنيات جعلت الطائرات أكثر من مجرد آلات ميكانيكية؛ لقد تحولت إلى منصات إلكترونية ناشئة وهو ما مهّد الطريق للانتقال من “طيار يعتمد على عينه” إلى “طيار يتكئ على شبكة أجهزة إلكترونية” لأول مرة في تاريخ الطيران.


A real-time clock built of TTL chips around 1979
A real-time clock built of TTL chips around 1979

من الترانزستورات إلى الطائرات كحواسيب طائرة


مع دخول الخمسينيات تغيّر المشهد كليًا بظهور الترانزستور الذي حلّ محل الأنابيب المفرغة الضخمة فاتحًا الباب أمام أجهزة أصغر وأكثر اعتمادية. ثم جاءت الدوائر المتكاملة (ICs) في الستينيات لتتيح تصنيع شرائح منطقية مثل TTL 7400 التي استُخدمت على نطاق واسع في الطيار الآلي وأنظمة الملاحة بالقصور الذاتي. هذا التطور مكّن الطائرات من اتخاذ قرارات منطقية وتنفيذ حسابات دقيقة دون تدخل مباشر من الطيار ومع السبعينيات ظهر جيل جديد قائم على المعالجات الدقيقة (Microprocessors) مثل Intel 8080، التي سمحت بتحكم رقمي أوسع في الوقود، المحركات، وحتى في استقرار الطائرة. في تلك الفترة برز مفهوم Fly-by-Wire لأول مرة في طائرة F-16 حيث انتقلت أوامر الطيار من أسلاك ميكانيكية إلى إشارات كهربائية ورقمية تعالجها حواسيب على متن الطائرة. ومع التسعينيات والألفية الجديدة تحوّل قمرة القيادة إلى Glass Cockpit حيث استبدلت العدادات الميكانيكية بشاشات رقمية تعرض بيانات مدمجة من GPS، INS، والرادارات، بينما اعتمدت الطائرات الحديثة مثل Boeing 777 وAirbus A320 على حواسيب موزعة تتواصل عبر بروتوكولات خاصة (ARINC 429 ثم AFDX) اليوم في طائرات مثل Boeing 787 Dreamliner وAirbus A350 نجد أنظمة CCS (Common Core System) تجمع بيانات من آلاف الحساسات وتوزعها عبر شبكة إيثرنت داخلية للتحكم بكل شيء من المحركات إلى الإضاءة. هذه الطائرات أشبه ما تكون بـ“حاسوب طائر” أكثر منها آلة ميكانيكية ومع ذلك يبقى للإلكترونيات القديمة إرث خاص؛ فبعض الطائرات العسكرية القديمة لا تزال تعتمد على شرائح TTL نادرة توقف تصنيعها مما جعلها قطعًا مطلوبة لهواة الترميم والباحثين في تاريخ التقنية. أما المستقبل فيتجه نحو دمج المعالجات متعددة النوى والذكاء الاصطناعي في إدارة الطيران إلى جانب مشاريع الطائرات الكهربائية والأنظمة ذاتية القيادة مما يعني أن رحلة الإلكترونيات في الطيران لم تصل بعد إلى محطتها الأخيرة.

Boeing 787-8 Dreamliner
Boeing 787-8 Dreamliner

إرث الماضي ومستقبل الطيران الإلكتروني


رحلة إلكترونيات الطيران بدأت من أدوات ميكانيكية بسيطة ثم قفزت عبر محطات حاسمة: الرادار، الترانزستور، الدوائر المتكاملة، الحواسيب الدقيقة، وصولًا إلى الطائرات التي لا تكاد تفرّقها عن شبكات حاسوبية طائرة. لكن رغم كل هذا التقدّم يبقى للإلكترونيات القديمة قيمة خاصة، فهي تمثل الجذور الأولى للثورة التقنية التي غيّرت مفهوم الطيران إلى الأبد. واليوم مع صعود الذكاء الاصطناعي والطائرات الكهربائية والأنظمة الذاتية يبدو أننا مقبلون على فصل جديد حيث قد تصبح الطائرات أكثر استقلالية وأمانًا وكفاءة من أي وقت مضى. وبين الإرث التقني للماضي وآفاق المستقبل المجهول تظل إلكترونيات الطيران شاهدًا حيًا على كيف يمكن للتطور العلمي أن يحوّل المستحيل إلى واقع يملأ السماء.

 
 
 

Comments


 

© 2025 by flux. All rights reserved.

 

bottom of page